فصل: بيان غاية الرياضة في خلق التواضع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


بيان غاية الرياضة في خلق التواضع

اعلم أن هذا الخلق كسائر الأخلاق له طرفان وواسطة‏:‏ فطرفه الذي يميل إلى الزيادة يسمى تكبراً وطرفه الذي يميل إلى النقصان يسمى تخاسساً ومذلة والوسط يسمى تواضعاً‏.‏

والمحمود أن يتواضع في غير مذلة ومن غير تخاسس فإن كلا طرفي الأمور ذميم وأحب الأمور إلى الله تعالى أوساطها‏.‏

فمن يتقدم على أمثاله فهو متكبر ومن يتأخر عنهم فهو متواضع‏:‏ أي وضع شيئاً من قدره الذي يستحقه‏.‏

والعالم إذا دخل عليه إسكاف فتنحى له عن مجلسه وأجلسه فيه ثم تقدم وسوى له نعله وعدا إلى باب الدار خلفه فقد تخاسس وتذلل وهذا أيضاً غير محمود بل المحمود عند الله العدل وهو أن يعطى كل ذي حق حقه فينبغي أن يتواضع بمثل هذا لأقرانه ومن يقرب من درجته فأما تواضعه للسوقي فبالقيام والبشر في الكلام والرفق في السؤال وإجابة دعوته والسعي في حاجته وأمثال ذلك وأن لا يرى نفسه خيراً منه بل يكون على نفسه أخوف منه على غيره فلا يحتقره ولا يستصغره وهو لا يعرف خاتمة أمره‏.‏

فإذا سبيله في اكتساب التواضع أن يتواضع للأقران ولمن دونهم حتى يخف عليه الواضع المحمود في محاسن العادات ليزول به الكبر عنه فإن خف عليه ذلك فقد حصل له خلق التواضع وإن كان يثقل عليه وهو يفعل ذلك فهو متكلف لا متواضع بل الخلق ما يصدر عنه الفعل بسهولة من غير ثقل ومن غير روية فإن خف ذلك وصار بحيث يثقل عليه رعاية قدره حتى أحب التملق والتخاسس فقد خرج إلى طرف النقصان فليرفع نفسه إذ ليس للمؤمن أن تذل نفسه إلى أن يعود إلى الوسط الذي هو الصراط المستقيم وذلك غامض في هذا الخلق وفي سائر الأخلاق‏.‏

والميل عن الوسط إلى طرف النقصان وهو التملق أهون من الميل إلى طرف الزيادة بالتكبر كما أن الميل إلى طرف التبذير في المال أحمد عند الناس من الميل إلى طرف البخل فنهاية التبذير ونهاية البخل مذمومان وأحدهما أفحش وكذلك نهاية التكبر ونهاية التنقص والتذلل مذمومان وأحدهما أقبح من الآخر‏.‏

والمحمود المطلق هو العدل ووضع الأمور مواضعها كما يجب وعلى ما يجب كما يعرف ذلك بالشرع والعادة ولنقتصر على هذا القدر من بيان أخلاق الكبر والتواضع‏.‏

الشطر الثاني من الكتاب في العجب وفيه بيان ذم العجب وآفاته وبيان حقيقة العجب والإدلال وحدهما وبيان علاج العجب على الجملة وبيان أقسام ما به العجب وتفصيل علاجه‏.‏

بيان ذم العجب وآفاته

اعلم أن العجب مذموم في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال الله تعالى ‏"‏ ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً ‏"‏ ذكر ذلك في معرض الإنكار وقال عز وجل ‏"‏ وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ‏"‏ فرد على الكفار في أعجابهم بحصونهم وشوكتهم وقال تعالى ‏"‏ وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً - وهذا أيضاً يرجع إلى العجب بالعمل‏.‏

وقد يعجب الإنسان بالعمل هو مخطئ فيه كما يعجب بعمل هو مصيب فيه‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه وقال لأبي ثعلبة - حيث ذكر آخر هذه الأمة فقالت - إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك وقال ابن مسعود‏:‏ الهلاك في اثنتين القنوط والعجب‏.‏

وإنما جمع بينهما لأن السعادة لا تنال إلا بالسعي والطلب والجد والتشمر والقانط لا يسعى ولا يطلب والمعجب يعتقد أنه قد سعد وقد ظفر بمراده فلا يسعى‏.‏

فالموجود لا يطلب والمحال لا يطلب والسعادة موجودة فياعتقاد المعجب حاصلة لهومستحيلة في اعتقاد القانط فمن ههنا جمع بينهما‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏"‏ فلا تزكوا أنفسكم ‏"‏ قال ابن جريج‏:‏ معناه إذا عملت خيراً فلا تقل عملت‏.‏

وقال زيد بن أسلم‏.‏

لا تبروها أي لا تعتقدوا أنها بارة وهو معنى العجب‏.‏

ووقى طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بنفسه فأكب عليه حتى أصيب كفه فكأنه أعجبه فعله العظيم إذ فداه بروحه حتى جرح فتفرس ذلك عمر فيه فقال‏:‏ ما زال يعرف في طلحة نأو منذ أصيب إصبعه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والنأو‏:‏ هو العجب - في اللغة - إلا أنه لم ينقل فيه أنه أظهره واحتقر مسلماً ولما كان وقت الشورى قال له ابن عباس أين أنت من طلحة قال‏:‏ ذلك رجل فيه نخوة‏.‏

فإذا كان لا يتخلص من العجب أمثالهم فكيف يتخلص الضعفاء إن لم يأخذوا حذرهم وقال مطرف‏:‏ لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً أحب إلي من أبيت قائماً وأصبح معجباً‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب فجعل العجب أكبر الذنوب‏.‏

وكان بشر بن منصور من الذين إذا رأوا ذكر الله تعالى والدار الآخرة لمواظبته على العبادة فأطال الصلاة يوماً ورجل خلفه ينظر ففطن له بشر فلما انصرف عن الصلاة قال له‏:‏ لا يعجبنك ما رأيت مني فإن إبليس لعنه الله قد عبد الله تعالى مع الملائكة مدة طويلة ثم صار إلى ما صار إليه‏.‏

وقيل لعائشة رضي الله عنها‏:‏ متى يكون الرجل مسيئاً‏:‏ قالت إذا ظن أنه محسن وقد قال تعالى ‏"‏ لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ‏"‏ والمن نتيجة استعظام الصدقة واستعظام العمل هو العجب‏.‏

فظهر بهذا أن العجب مذموم جداً‏.‏

بيان آفة العجب

اعلم أن آفات العجب كثيرة فإن العجب يدعو إلى الكبر لأنه أحد أسبابه - كما ذكرناه - فيتولد من العجب الكبر ومن الكبر الآفات الكثيرة التي لا تخفى هذا مع العباد وأما مع الله تعالى فالعجب يدعو إلى نسيان الذنوب وإهمالها فبعض ذنوبه لا يذكرها ولا يتفقدها لظنه أنه مستغن عن تفقدها فينساها وما يتذكره منها فيستصغره ولا يستعظمه فلا يجتهد في تداركه وتلافيه بل يظن أنه يغفر له‏.‏

وأما العبادات والأعمال فإنه يستعظمها ويتبجح بها ويمن على الله بفعلها وينسى نعمة الله عليه بالتوفيق والتمكين منها ثم إذا عجب بها عمي عن آفاتها‏.‏

ومن لم يتفقد آفات الأعمال كان أكثر سعيه ضائعاً فإن الأعمال الظاهرة إذا لم تكن خالصة نقية عن الشوائب قلما تنفع وإنما يتفقد من يغلب عليه الإشفاق والخوف دون العجب والمعجب يغتر بنفسه وبرأيه ويأمن مكر الله وعذابه ويظن أنه عند الله بمكان وأن له عند الله منة وحقاً بأعماله التي هي نعمة وعطية من عطاياه ويخرجه العجب إلى أن يثني على نفسه ويحمدها ويزكيها وإن أعجب برأيه وعمله وعقله منع ذلك من الاستفادة ومن الاستشارة والسؤال فيستبد بنفسه ورأيه ويستنكف من سؤال من هو أعلم منه وربما يعجب بالرأي الخطأ الذي خطر له فيفرح بكونه من خواطره ولا يفرح بخواطر غيره فيصر عليه ولا يسمع نصح ولا وعظ واعظ بل ينظر إلى غيره بعين الاستجهال ويصر على خطئه فإن كان رأيه في أمر دنيوي فيحقق فيه وإن كان في أمر ديني لا سيما فيما يتعلق بأصول العقائد فيهلك به ولو اتهم نفسه ولم يثق برأيه واستضاء بنور القرآن واستعان بعلماء الدين وواظب على مدارسة العلم وتابع سؤال أهل البصيرة لكان ذلك يوصله إلى الحق‏.‏

فهذا وأمثاله من آفات العجب فلذلك كان من المهلكات ومن أعظم آفاته أن يفتر في السعي لظنه أنه قد فاز وأنه قد استغنى وهو الهلاك الصريح الذي لا شبهة فيه‏.‏

نسأل الله تعالى العظيم حسن التوفيق لطاعته‏.‏

اعلم أن العجب إنما يكون بوصف هو كمال لا محالة وللعالم بكمال نفسه في علم وعمل ومال وغيره حالتان إحداهما أن يكون خائفاً على زواله ومشفقاً على تكدره أو سلبه من أصله فهذا ليس بمعجب والأخرى أن لا يكون خائفاً من زواله لكن يكون فرحاً به من حيث إنه نعمة من الله تعالى عليه لا من حيث إضافته إلى نفسه وهذا أيضاً ليس بمعجب ‏"‏ وله حالة ثالثة ‏"‏ هي العجب وهي أن يكون غير خائف عليه بل يكون فرحاً به مطمئناً إليه ويكون فرحه به من حيث إنه كمال ونعمة وخير ورفعة لا من حيث إنه عطية من الله تعالى ونعمة منه فيكون فرحه من حيث إنه صفته ومنسوب إليه بأنه له لا من حيث إنه منسوب إلى الله تعالى بأنه منه فمهما غلب على قلبه أنه نعمة من الله مهما شاء سلبها عنه زال العجب بذلك عن نفسه‏.‏

فإذن العجب هو استعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم‏.‏

فإن انضاف إلى ذلك أن غلب على نفسه أن له عند الله حقاً وأنه منه بمكان حتى يتوقع بعمله كرامة في الدنيا واستبعد أن يجري عليه مكروه استبعاداً يزيد على استبعاده ما يجري على الفساق سمي هذا إدلالاً بالعمل فكأنه يرى لنفسه على الله دالة وكذلك قد يعطى غيره شيئاً فيستعظمه ويمن عليه فيكون معجباً فإن استخدمه أو اقترح عليه الاقتراحات أو استبعد تخلفه عن قضاء حقوقه كان مدلاً عليه‏.‏

وقال قتادة في قوله تعالى ‏"‏ ولا تمنن تستكثر ‏"‏ أي لا تدل بعملك وفي الخبر ‏"‏ إن صلاة المدل لا ترفع فوق رأسه ولأن تضحك وأنت معترف بذنبك خير من أن تبكي وأنت مدل بعملك والإدلال وراء العجب فلا مدل إلى وهو معجب ورب معجب لا يدل إذ العجب يحصل بالاستعظام ونسيان النعمة دون توقع جزاء عليه والإدلال لا يتم إلا مع توقع جزاء فإن توقع إجابة دعوته واستنكر ردها بباطنه وتعجب منه كان مدلاً بعمله لأنه لا يتعجب من رد دعاء الفاسق ويتعجب من رد دعاء نفسه لذلك‏.‏

فهذا هو العجب والإدلال وهو من مقدمات الكبر وأسبابه والله تعالى أعلم‏.‏

بيان علاج العجب على الجملة

اعلم أن علاج كل علة هو مقابلة سببها بضده وعلة العجب الجهل المحض فعلاجه المعرفة المضادة لذلك الجهل فقط فلنفرض العجب بفعل داخل تحت اختيار العبد كالعبادة والصدقة والغزو وسياسة الخلق وإصلاحهم فإن العجب بهذا أغلب من العجب بالجمال والقوة والنسب وما لا يدخل تحت اختياره ولا يراه من نفسه‏.‏

فنقول‏:‏ الورع والتقوى والعبادة والعمل الذي به يعجب إنما يعجب به من حيث إنه فيه فهو محله

ومجراه أو من حيث إنه منه وبسببه وبقدرته وقوته فإن كان يعجب به من حيث إنه فيه وهو محله ومجراه يجري فيه وعليه من جهة غيره فهذا جهل لأن المحل مسخر ومجرى لا مدخل له في الإيجاد والتحصيل فكيف يعجب بما ليس إليه وإن كان يعجب به من حيث إنه هو منه وإليه وباختياره حصل وبقدرته تم فينبغي أن يتأمل في قدرته وإرادته وأعضائه وسائر الأسباب التي بها يتم عمله أنها من أين كانت له فإن كان جميع ذلك نعمة من الله عليه من غير حق سبق له ومن غير وسيلة يدلي بها فينبغي أن يكون إعجابه بجود الله وكرمه وفضله إذ أفاض عليه ما لا

يستحق وآثره به على غيره من غير سابقة ووسيلة فمهما برز الملك لغلمانه ونظر إليهم وخلع من جملتهم على واحد منهم لا لصفة فيه ولا لوسيلة ولا لجماله ولا لخدمة فينبغي أن يتعجب المنعم عليه من فضل الملك وحكمه وإيثاره من غير استحقاق وإعجابه بنفسه من أين وما سببه ولا ينبغي أن يعجب بنفسه‏.‏

نعم يجوز أن يعجب العبد فيقول‏:‏ الملك حكم عادل لا يظلم ولا يقدم ولا يؤخر إلا لسبب فلولا أنه تفطن في صفة من الصفات المحمودة الباطنة لما اقتضى الإيثار بالخلعة ولما آثرني بها فيقال‏:‏ وتلك الصفة أيضاً هي من خلعة الملك وعطيته التي خصصك بها من غيرك من غير وسيلة أو هي عطية غيره فإن كانت من عطية الملك أيضاً لم يكن لك أن تعجب بها بل كان كما لو أعطاك فرساً فلم تعجب به‏.‏

فأعطاك غلاماً فصرت تعجب به وتقول‏:‏ إنما أعطاني غلاماً لأني صاحب فرس فأما غيري فلا فرس له فيقال‏:‏ وهوالذي أعطاك الفرس فلا فرق بين أن يعطيك الفرس والغلام معاً أو يعطيك أحدهما بعد الآخر‏!‏ فإذا كان الكل منه فينبغي أن يعجبك جوده وفضله لا نفسك‏.‏

وأما إن كانت تلك الصفة من غيره فلا يبعد أن تعجب بتلك الصفة وهذا يتصور في حق الملوك ولا يتصور في حق الجبار القاهر ملك الملوك

المنفرد باختراع الجميع المنفرد بإيجاد الموصوف والصفة فإنك إن أعجبت بعادتك وقلت‏:‏ وفقني للعبادة لحبي له فيقال‏:‏ ومن خلق الحب في قلبك فتقول‏:‏ هو فيقال‏:‏ فالحب والعبادة كلاهما نعمتان من عنده ابتدأك بهما من غير استحقاق من جهتك إذ لا وسيلة لك ولا علاقة فيكون الإعجاب بجوده إذ أنعم بوجودك ووجود صفاتك وبوجود أعمالك وأسباب أعمالك‏!‏ فإذاً لا معنى لعجب العابد بعبادته وعجب العالم بعلمه وعجب الجميل بجماله وعجب الغني بغناه‏!‏ لأن كل ذلك من فضل الله وإنما هو محل لفيضان فضل الله تعالى وجوده والمحل أيضاً من فضله

وجوده‏.‏

فإن قلت‏:‏ لا يمكنني أن أجهل أعمالي وإني أنا عملتها فإني أنتظر عليها ثواباً ولولا أنها عملي لما انتظرت ثواباً فإن كانت الأعمال مخلوقة لله على سبيل الاختراع فمن أين لي الثواب وإن كانت الأعمال مني وبقدرته فكيف لا أعجب بها فاعلم أن جوابك من وجهين أحدهما هو صريح أما صريح الحق‏:‏ فهو أنك وقدرتك وإرادتك وحركتك وجميع ذلك من خلق الله واختراعه فما عملت إذ عملت وما صليت إذ صليت ‏"‏ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ‏"‏ فهذا هو الحق الذي انكشف لأرباب القلوب بمشاهدة أوضح من إبصار العين بل خلقك وخلق أعضاءك وخلق فيها القوة والقدرة والصحة وخلق لك العقل والعلم وخلق لك الإرادة ولو أردت أن تنفي شيئاً من هذا عن نفسك لم تقدر عليه ثم خلق الحركات في أعضائك مستبداً باختراعها من غير مشاركة من جهتك معه في الاختراع إلا أنه خلقه على ترتيب فلم يخلق الحركة ما لم يخلق في العضو قوة وفي القلب إرادة ولم يخلق إرادة ما لم يخلق علماً بالمراد ولم يخلق علماً ما لم يخلق القلب الذي هو محل العلم فتدريجه في الخلق شيئاً بعد شيء هو الذي خيل لك أنك

أوجدت عملك وقد غلطت‏.‏

وإيضاح ذلك وكيفية الثواب على عمل هو من خلق الله سيأتي تقريره في كتاب الشكر فإنه أليق به فارجع إليه‏.‏

ونحن الآن نزيل إشكالك بالجواب الثاني الذي فيه مسامحة ما وهو أن تحسب أن العمل حصل بقدرتك فمن أين قدرتك ولا يتصور العمل إلا بوجودك ووجود عملك وإرادتك وسائر أسباب عملك وكل ذلك من الله تعالى لا منك‏!‏ فإن كان العمل بالقدرة فالقدرة مفتاحه وهذا المفتاح بيد الله ومهما لم يعطك المفتاح فلا يمكنك العمل فالعبادات خزائن بها يتوصل إلى السعادات ومفاتيحها القدرة والإرادة والعلم وهي بيد الله لا محالة‏.‏

أرأيت لو رأيت خزائن الدنيا مجموعة في قلعة حصينة ومفتاحها بيد خازن ولو جلست على بابها وحول حيطانها ألف سنة لم يمكنك أن تنظر إلى دينار مما فيها ولو أعطاك المفتاح لأخذته من قريب بأن تبسط يدك إليه فتأخذه فقط فإذا أعطاك الخازن المفاتيح وسلطك عليها ومكنك منها فمددت يدك وأخذتها كان إعجابك بإعطاء الخازن المفاتيح أو بما إليك من مد اليد وأخذها فلا تشك في أنك ترى ذلك نعمة من الخازن لأن المؤنة في تحريك اليد بأخذ المال قريبة وإنما الشأن كله في تسليم المفاتيح‏.‏

فكذلك مهما خلقت القدرة وسلطت الإرادة الجازمة وحركت الدواعي والبواعث وصرف عنك الموانع والصوارف حتى لم يبق صارف إلا دفع ولا باعث إلا وكل بك فالعمل هين عليك وتحريك البواعث وصرف العوائق وتهيئة الأسباب كلها من الله ليس شيء منها إليك فمن العجائب أن تعجب بنفسك ولا تعجب بمن إليه الأمر كله ولا تعجب بجوده وفضله وكرمه في إيثاره إياك على الفساق من عباده إذ سلط دواعي الفساد على الفساق وصرفها عنك وسلط أخدان السوء ودعاة الشر عليهم وصرفهم عنهم ومكنك من أسباب الشهوات واللذات وزواها عنك وصرف عنهم بواعث الخير ودواعيه وسلطها عليك حتى تيسر لك الخير وتيسر لهم الشر‏!‏ فعل ذلك كله بك من غير وسيلة سابقة منك ولا جريمة سابقة من الفاسق العاصي بل آثرك وقدمك واصطفاك بفضله وأبعد العاصي وأشقاه بعدله فما أعجب إعجابك بنفسك إذا عرفت ذلك‏!‏ فإذن لا تنصرف قدرتك إلى المقدور إلا بتسليط الله عليك داعية لا تجد سبيلاً إلى مخالفتها فكأنه الذي اضطرك إلى الفعل إن كنت فاعلاً تحقيقاً فله الشكر والمنة لا لك - وسيأتي في كتاب التوحيد والتوكل من بيان تسلسل الأسباب والمسببات ما تستبين به أنه لا فاعل إلا الله ولا خالق سواه والعجب ممن يتعجب - وإذا رزقه الله عقلاً وأفقره - ممن أفاض عليه المال من غير علم فيقول‏:‏ كيف منعني قوت يومي وأنا العاقل الفاضل وأفاض على هذا نعيم الدنيا وهو الغافل الجاهل حتى يكاد يرى هذا ظلماً ولا يدري المغرور أنه لو جمع له بين العقل والغنى وحرمتني منهما فهلا جمعتهما لي أو هلا رزقتني أحدهما وإلى هذا أشار علي رضي الله عنه حيث قيل له‏:‏ ما بال العقلاء فقراء فقال‏:‏ إن عقل الرجل محسوب عليه من رزقه‏.‏

والعجب أن العاقل الفقير ربما يرى الجاهل الغني أحسن حالاً من نفسه ولو قيل له‏:‏ هل تؤثر جهله وغناه عوضاً عن عقلك وفقرك لامتنع عنه‏!‏ فإذن ذلك يدل على أن نعمة اللهعليه أكبر فلم يتعجب من ذلك والمرأة الحسناء الفقيرة ترى الحلي والجواهر على الدميمة القبيحة فتعجب وتقول‏:‏ كيف يحرم مثل هذا الجمال من الزينة ويخصص مثل ذلك القبح ولا تدري المغرورة أن الجمال محسوب عليها من رزقها وأنها لو خيرت بين الجمال وبين القبح مع الغنى لآثرت الجمال فإذن نعمة الله عليها أكبر‏.‏

وقول الحكيم الفقير العاقل بقلبه‏:‏ يا رب لم حرمتني الدنيا وأعطيتها الجهال كقول من أعطاه الملك فرساً فيقول‏:‏ أيها الملك لم لا تعطيني الغلام وأنا صاحب فرس فيقول‏:‏ كنت لا تتعجب من هذا لو لم أعطك الفرس‏!‏ فهب أني ما أعطيتك فرساً أصارت نعمتي عليك وسيلة لك وحجة تطلب بها نعمة أخرى فهذه أوهام لا تخلو الجهال عنها ومنشأ جميع ذلك الجهل ويزال ذلك بالعلم المحقق بأن العبد وعمله وأوصافه كل ذلك من عند الله تعالى نعمة ابتدأه بها قبل الاستحقاق وهذا ينفي العجب والإدلال ويورث الخضوع والشكر والخوف من زوال النعمة‏.‏

ومن عرف هذا لم يتصور أن يعجب بعمله وعمله إذ يعلم أن ذلك من الله تعالى ولذلك قال داود عليه السلام‏:‏ يا رب ما تأتي ليلة إلا وإنسان من آل داود صائم - وفي وراية ما تمر ساعة من ليل أو نهار إلا وعابد من آل داود يعبدك إما يصلي أو يصوم وإما يذكرك - فأوحى الله تعالى إليه‏:‏ يا داود ما أصاب من الذنب بعجبه بعمله إذ أضافه إلى آل داود مدلاً به حتى وكل إلى نفسه فأذنب ذنباً أورثه الحزن والندم‏.‏

وقال داود‏:‏ يا رب إن بني إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال‏:‏ إني ابتليتهم فصبروا فقال‏:‏ يا رب وأنا إن ابتليتني صبرت فأدل بالعمل قبل وقته فقال الله تعالى‏:‏ فإني لم أخبرهم بأي شيء ابتليتهم ولا في أي شهر ولا في أي يوم وأنا مخبرك في سنتك هذه وشهرك هذا ابتليتك غداً بامرأة فاحذر نفسك فوقع فيما وقع فيه‏.‏

وكذلك لما اتكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين على قوتهم وكثرتهم ونسوا فضل الله تعالى عليهم وقالوا لا نغلب اليوم من قلة وكلوا إلى أنفسهم فقال تعالى ‏"‏ ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ‏"‏‏.‏

روى ابن عيينة أن أيوب عليه السلام قال‏:‏ إلهي إنك ابتليتني بهذا البلاء وما ورد علي أمر إلا آثرت هواك على هواي فنودي من عمامة بعشرة آلاف صوت‏.‏

يا أيوب أنى لك ذلك أي من أين لك ذلك قال‏:‏ فأخذ رماداً ووضعه على رأسه وقال‏:‏ منك يا رب منك يا رب فرجع من نسيان إلى إضافة ذلك إلى الله تعالى‏.‏

ولهذا قال الله تعالى ‏"‏ ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبداً ‏"‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهم خير الناس ‏"‏ ما منكم من أحد ينجيه عمله ‏"‏ قالوا‏:‏ ولا أنت يا رسول الله قال ‏"‏ ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ولقد كان أصحابه من بعده يتمنون أن يكونوا تراباً وتبناً وطيراً مع صفاء أعمالهم وقلوبهم فكيف يكون لذي بصيرة أن يعجب بعمله أو يدل به ولا يخاف على نفسه فإذن هذا هو العلاج القامع لمادة العجب من القلب ومهما غلب ذلك على القلب شغله خرف سلب هذه النعمة من الإعجاب بها بل هو ينظر إلى الكفار والفساق وقد سلبوا نعمة الإيمان والطاعة بغير ذنب أذنبوه من قبل فيخاف من ذلك فيقول‏:‏ إن من لا يبالي أن يحرم من غير جناية ويعطى من غير وسيلة لا يبالي أن يعود ويسترجع ما وهب فكم من مؤمن قد ارتد ومطيع قد فسق وختم له بسوء‏!‏ وهذا لا يبقى معه عجب بحال والله تعالى أعلم‏.‏

بيان أقسام ما به العجب وتفصيل علاجه

اعلم أن العجب بالأسباب التي بها يتكبر - كما ذكرناها - وقد يعجب بما لا يتكبر به كعجبه بالرأي الخطأ الذي يزين له بجهله‏.‏

فما به العجب ثمانية أقسام‏:‏ الأول أن يعجب ببدنه في جماله وهيئته وقوته وتناسب أشكاله وحسن صورته وحسن صوته وبالجملة تفصيل خلقته فيلتفت إلى جمال نفسه أنه نعمة من الله تعالى وهو بعرضة الزوال في كل حال وعلاجه ما ذكرناه في الكبر بالجمال وهو التفكر في أقذار باطنه وفي أول أمره وفي آخره وفي الوجوه الجميلة والأبدان الناعمة أنها كيف تمزقت في التراب وأنتنت في القبور حتى استقذرتها الطباع‏.‏

الثاني البطش والقوة كما حكي عن قوم عاد حين قالوا فيما أخبر الله عنهم ‏"‏ من أشد منا قوة ‏"‏ وكما اتكل عوج على قوته وأعجب بها فاقتلع جبلاً ليطبقه على عسكر موسى عليه السلام فثقب الله تعالى تلك القطعة من الجبل بنقر هدهد ضعيف المنقار حتى صارت في عنقه وقد يتكل المؤمن أيضاً على قوته كما روي عن سليمان عليه السلام أنه قال‏:‏ لأطوفن الليلة على مائة امرأة‏!‏ ولم يقل إن شاء الله تعالى فحرم ما أراد من الولد وكذلك قول داود عليه السلام‏:‏ إن ابتليتني صبرت وكان إعجاباً منه بالقوة فلما ابتلي بالمرأة لم يصبر‏.‏

ويورث العجب بالقوة الهجوم في الحروب وإلقاء النفس في التهلكة والمبادرة إلى الضرب والقتل لكل من قصده بالسوء وعلاجه ما ذكرناه وهو أن يعلم أن حمى يوم تضعف قوته‏!‏ وأنه إذا أعجب بها ربما سلبها الله تعالى بأدنى آفة يسلطها عليه‏.‏

‏"‏ الثالث ‏"‏ العجب بالعقل والكياسة والتفطن لدقائق الأمور من مصالح الدين والدنيا وثمرته الاستبداد بالرأي وترك المشورة واستجهال الناس المخالفين له ولرأيه ويخرج إلى قلة الإصغاء إلى أهل العلم إعراضاً عنهم بالاستغناء بالرأي والعقل واستحقاراً لهم وإهانة وعلاجه أن يشكر الله تعالى على ما رزق من العقل ويتفكر أنه بأدنى مرض يصيب دماغه كيف يوسوس ويجن بحيث يضحك منه‏!‏ فلا يأمن أن يسلب عقله إن أعجب به ولم يقم بشكره وليستقصر عقله وعلمه وليعلم أنه ما أوتي من العلم إلا قليلاً وإن اتسع علمه وأن ما جهله مما عرفه الناس أكثر مما عرفه فكيف بما لم يعرفه الناس من علم الله تعالى وأن يتهم عقله وينظر إلى الحمقى كيف يعجبون بعقولهم ويضحك الناس منهم فيحذر أن يكون منهم وهو لا يدري‏.‏

فإن القاصر العقل قط لا يعلم قصور عقله فينبغي أن يعرف مقدار عقله من غيره لا من نفسه ومن أعدائه لا من أصدقائه فإن من يداهنه يثني عليه فيزيده عجباً وهو لا يظن بنفسه إلا الخير ولا يفطن لجهل نفسه فيزداد عجباً‏.‏

الرابع العجب بالنسب الشريف كعجب الهاشمية حتى يظن بعضهم أنه ينجو بشرف نسبه ونجاة آبائه وأنه مغفور له ويتخيل بعضهم أن جميع الخلق له موال وعبيد وعلاجه أن يعلم أنه مهما خالف آباءه في أفعالهم وأخلاقهم وظن أنه ملحق بهم فقد جهل وإن اقتدى بآبائه فما كان من أخلاقهم العجب بل الخوف والازدراء على النفس واستعظام الخلق ومذمة النفس ولقد شرفوا بالطاعة والعلم والخصال الحميدة لا بالنسب فليتشرف بما شرفوا به وقد ساواهم في النسب وشاركهم في القبائل من لم يؤمن بالله واليوم الآخر وكانوا عند الله شراً من الكلاب وأخس من الخنازير ولذلك قال تعالى ‏"‏ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ‏"‏ أي لا تفاوت في أنسابكم لاجتماعكم في أصل واحد ثم ذكر فائدة النسب فقال ‏"‏ وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ‏"‏ ثم بين أن الشرف بالتقوى لا بالنسب فقال ‏"‏ إن أكرمكم عند الله أتقاكم ‏"‏ ولما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أكرم الناس من أكيس الناس لم يقل‏:‏ من ينتمي إلى نسبي ولكن قال ‏"‏ أكرمهم أكثرهم للموت ذكراً وأشدهم له استعداداً وإنما نزلت هذه الآية حين أذن بلال يوم الفتح على الكعبة‏:‏ فقال الحرث بن هشام وسهيل بن عمرو وخالد بن أسيد‏:‏ هذا العبد الأسود يؤذن علىالكعبة فقال تعالى ‏"‏ إن أكرمكم عند الله أتقاكم ‏"‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية - أي كبيرها - كلكم بنو آدم وآدم من تراب وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يا معشر قريش لا تأتي الناس بالأعمال يوم القيامة وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم تقولون يا محمد يا محمد فأقول هكذا - أي أعرض عنكم - فبين أنهم إذا مالوا إلى الدنيا لم ينفعهم نسب قريش‏.‏

ولما نزل قوله تعالى ‏"‏ وأنذر عشيرتك الأقربين ‏"‏ ناداهم بطناً بعد بطن حتى قال ‏"‏ يا فاطمة بنت محمد يا صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم اعملا لأنفسكما فإني لا أغني عنكما من الله شيئاً فمن عرف هذه الأمور وعلم أن شرفه بقدر تقواه وقد كان من عادة آبائه التواضع اقتدى بهم في التقوى والتواضع وإلا كان طاعناً في نسب نفسه - بلسان حاله - مهما انتمى إليهم ولم يشبههم في التواضع والتقوى والخوف والإشفاق‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد قال صلى الله عليه وسلم بعد قوله لفاطمة وصفية ‏"‏ إني لا إني عنكما من الله شيئاً إلا أن لكم رحماً سأبلها ببلاها وقال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ أترجو سليم شفاعتي ولا يرجوها بنو عبد المطلب فذلك يدل على أنه سيخصص قرابته بالشفاعة فاعلم أن كل مسلم فهو منتظر شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والنسيب أيضاً جدير بأن يرجوها لكن بشرط أن يتقي الله أن يغضب عليه فإنه إن يغضب عليه فلا يأذن لأحد في شفاعته لأن الذنوب منقسمة إلى ما يوجب المقت فلا يؤذن في الشفاعة له وإلى ما يعفى عنه بسبب الشفاعة كالذنوب عند ملوك الدنيا فإن كل ذي مكانة عند الملك لا يقدر على الشفاعة فيما اشتد عليه غضب الملك فمن الذنوب ما لا تنجي منه الشفاعة وعنه العبارة بقوله تعالى ‏"‏ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ‏"‏ وبقوله ‏"‏ من ذا الذي يشفع عند إلا بإذنه ‏"‏ وبقوله ‏"‏ ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ‏"‏ وبقوله ‏"‏ فما تنفعهم شفاعة الشافعين ‏"‏ وإذا انقسمت الذنوب إلا ما يشفع فيه وإلى ما لا يشفع فيه وجب الخوف والإشفاق لا محالة ولو كان ذنب تقبل فيه الشفاعة لما أمر قريشاً بالطاعة ولما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها عن المعصية ولكان يأذن لها في اتباع الشهوات لتكمل لذاتها في الدنيا ثم يشفع لها في الآخرة لتكمل لذاتها في الآخرة‏.‏

فالانهماك في الذنوب وترك التقوى اتكالاً على رجاء الشفاعة يضاهي انهماك المريض في شهواته اعتماداً على طبيب حاذق قريب مشفق من أب أو أخ أو غيره وذلك جهل لأن سعي الطبيب وهمته وحذقه تنفع في إزالة بعض الأمراض لا في كلها فلا يجوز ترك الحمية مطلقاً اعتماداً على مجرد الطب بل للطبيب أثر على الجملة ولكن في الأمراض الخفيفة وعند وغلبة اعتدال المزاج‏.‏

فهكذا ينبغي أن تفهم عناية الشفعاء من الأنبياء والصلحاء للأقارب والأجانب فإنه كذلك قطعاً وذلك لا يزيل الخوف والحذر وكيف يزيل وخير الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وقد كانوا يتمنون أن يكونوا بهائم من خوف الآخرة مع كمال تقواهم وحسن أعمالهم وصفاء قلوبهم وما سمعوه من وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بالجنة خاصة وسائر المسلمين بالشفاعة عامة ولم يتكلوا عليه ولم يفارق الخوف والخشوع قلوبهم فكيف يعجب بنفسه ويتكل على الشفاعة من ليس له مثل صحبتهم وسابقتهم ‏"‏ الخامس ‏"‏ العجب بنسب السلاطين الظلمة وأعوانهم دون نسب الدين والعلم‏.‏

وهذا غاية الجهل وعلاجه أن يتفكر في مخازيهم وما جرى لهم من الظلم على عباد الله والفساد في دين الله وأنهم الممقوتون عند الله تعالى ولو نظر إلى صورهم في النار وأنتانهم وأقذارهم لاستنكف منهم ولتبرأ من الانتساب إليهم ولأنكر على من نسبه إليهم استقذاراً واستحقار لهم ولو انكشف له ذلهم في القيامة وقد تعلق الخصماء بهم والملائكة آخذون بنواصيهم يجرونهم على وجوههم إلى جهنم في مظالم العباد لتبرأ إلى الله منهم ولكان انتسابه إلى الكلب والخنزير أحب إليه من الانتساب إليهم فحق أولاد الظلمة إن عصمهم الله من ظلمهم أن يشكروا الله تعالى على السادس العجب بكثرة العدد من الأولاد والخدم والغلمان والعشيرة والأقارب والأنصار والأتباع كما قال الكفار ‏"‏ نحن أكثر أموالاً وأولاداً ‏"‏ وكما قال المؤمنون يوم حنين‏:‏ لا نغلب اليوم من قلة وعلاجه ما ذكرناه في الكبر وهو أن يتفكر في ضعفه وضعفهم وأن كلهم عبيد عجزة لا يملكون

لأنفسهم ضراً ولا نفعاً‏.‏

‏"‏ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ‏"‏ ثم كيف يعجب بهم وأنهم سيفترقون عنه إذا مات فيدفن في قبره ذليلاً معيناً وحده لا يرافقه أهل ولا ولد ولا قريب ولا حميم ولا عشير فيسلمونه إلى البلى والحيات والعقارب والديدان ولا يغنون عنه شيئاً وفي أحوج أوقاته إليهم وكذلك يهربون منه يوم القيامة ‏"‏ يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ‏"‏ الآية‏.‏

فأي خير فيمن يفارقك في أشد أحوالك ويهرب منك وكيف تعجب به ولا ينفعك في القبر والقيامة وعلى الصراط إلى عملك وفضل الله تعالى فكيف تتكل على من لا ينفعك وتنسى نعم من يملك نفعك وضرك وموتك وحياتك‏.‏

السابع العجب بالمال كما قال تعالى إخباراً عن صاحب الجنتين إذ قال ‏"‏ أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً ‏"‏ ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً غنياً جلس بجنبه فقير فانقبض عنه وجمع ثيابه فقال عليه السلام ‏"‏ أخشيت أن يعدو إليك فقره وذلك للعجب بالغنى وعلاجه أن يتفكر في آفات المال وكثرة حقوقه وعظيم غوائله وينظر إلى فضيلة الفقراء وسبقهم إلى الجنة في القيامة وإلى أن المال غاد ورائح ولا أصل له وإلى أن في اليهود من يزيد عليه في المال وإلى قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ بينما رجل يتبختر في حلة له قد أعجبته نفسه إذ أمر الله الأرض فأخذته فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة وأشار به إلى عقوبة إعجابه بماله ونفسه‏.‏

وقال أبو ذر كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد فقال لي ‏"‏ يا أبا ذر ارفع رأسك ‏"‏ فرفعت رأسي فإذا رجل عليه ثياب جياد ثم قال ‏"‏ ارفع رأسك ‏"‏ فرفعت رأسي فإذا رجل عليه ثياب خلقة فقال لي ‏"‏ يا أبا ذر هذا عند الله خير من قراب الأرض مثل هذا وجميع ما ذكرناه في كتاب الزهد وكتاب ذم الدنيا وكتاب ذم المال يبين حقارة الأغنياء وشرف الفقراء عند الله تعالى فكيف يتصور من المؤمن أن يعجب بثروته بل لا يخلو المؤمن عن خوف من تقصيره في القيام بحقوق المال في أخذه من حله ووضعه في حقه ومن لا يفعل ذلك فمصيره إلى الخزي والبوار فكيف يعجب بماله‏.‏

الثامن العجب بالرأي الخطأ‏.‏

قال الله تعالى ‏"‏ أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ‏"‏ وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن ذلك يغلب على آخر هذه الأمة وبذلك هلكت الأمم السالفة إذ افترقت فرقاً فكل معجب برأيه ‏"‏ وكل حزب بما لديهم فرحون ‏"‏ وجميع أهل البدع والضلال إنما أصروا عليها لعجبهم بآرائهم والعجب بالبدعة هو استحسان ما يسوق إليه الهوى والشهوة مع ظن كونه حقاً وعلاج هذا العجب أشد من علاج غيره لأن صاحب الرأي الخطأ جاهل بخطئه ولو عرفه لتركه ولا يعالج الداء الذي لا يعرف والجهل داء لا يعرف فتعسر مداواته جداً‏.‏

لأن العارف يقدر على أن يبين للجاهل جهله ويزيله عنه إلا إذا كان معجباً برأيه وجهله فإنه لا يصغي إلى العارف ويتهمه فقد سلط الله عليه بلية تهلكه وهو يظنها نعمة فكيف يمكن علاجه وكيف يطلب الهرب مما هو سبب سعادته في اعتقاده وإنما علاجه على الجملة أن يكون متهماً لرأيه أبداً لا يغتر به إلا أن يشهد قاطع منن كتاب أو سنة أو دليل عقلي صحيح جامع لشروط الأدلة ولن يعرف الإنسان أدلة الشرع والعقل

وشروطها ومكامن الغلط فيها إلا بقريحة تامة وعقل ثاقب وجد وتشمر في الطلب وممارسة للكتاب والسنة ومجالسة لأهل العلم طول العمر ومدارسة للعلوم ومع ذلك فلا يؤمن عليه الغلط في بعض الأمور والصواب لمن لم يتفرع لاستغراق عمره في العلم أن لا يخوض في المذاهب ولا يصغي إليها ولا يسمعها ولكن يعتقد أن الله تعالى واحد لا شريك له وأنه ‏"‏ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ‏"‏ وأن رسوله صادق فيما أخبر به ويتبع سنة السلف ويؤمن بجملة ما جاء به الكتاب والسنة من غير بحث وتنقير وسؤال عن تفصيل بل يقول آمناً وصدقنا ويشتغل بالتقوى واجتناب المعاصي وأداء الطاعات والشفقة على المسلمين وسائر الأعمال فإن خاض في المذاهب والبدع والتعصب في العقائد هلك من حيث لا يشعر‏.‏

هذا حق كل من عزم على أن يشتغل في عمره بشيء غير العلم فأما الذي عزم على التجرد للعلم فأول مهم له معرفة الدليل وشروطه وذلك مما يطول الأمر فيه والوصول إلى اليقين والمعرفة في أكبر المطالب شديد لا يقدر

عليه إلا الأقوياء المؤيدون بنور الله تعالى وهو عزيز الوجود جداً فنسأل الله تعالى العصمة من الضلال ونعوذ به من الاغترار بخيالات الجهال‏.‏

تم كتاب ذم الكبر والعجب والحمد لله وحده وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم‏.‏